شيك على بياض: أنا الشعب (6 – 6)


إذن ثلاثة رؤساء حكموا مصر فعليا منذ الثورة بلا عقد ولا اتفاق ولا أي شيء يلتزموا به تجاه المجتمع، لا يمكن أن نعرف نوايا هؤلاء فهى شيء لا يعلمه إلا الله، ولكن سنأخذ بأفضل الفروض وهو أن نوايا هؤلاء كانت حسنة تبغي خير المجتمع، ولكن ليس بالنوايا تحكم المجتمعات ويتحدد مصير الشعوب.
فالفرد مهما كانت أخلاقه حسنة وضميره يقظ، فان تجميع سلطات وصلاحيات لا حدود لها في يده أمر على جانب كبير من الخطورة، لأنه من الوارد جدا أن ينحرف – عن قصد أو غير قصد – هو بنفسه أو من يفوض إليهم بعض هذه السلطات والصلاحيات، وطالما ليس هناك رقيب يحد من تصرف هؤلاء في السلطة، فلابد أن ينتشر الفساد وان تستبد السلطة بمن تمارس عليهم، وفي النهاية نكون أمام نظام ينتهك حقوق وحريات المواطن بمبررات وحجج شتى.
إذن الحل ليس في شيك على بياض يعطيه المجتمع للحاكم، وإنما توكيل محدد المدة، ومؤطر بحدود السلطات والصلاحيات المفوضة له بمقتضى هذا التوكيل، توكيل يكون أساسه دستور ديمقراطي يشارك الأفراد في وضع نصوصه، دستور يكفل للشعب الحقوق والحريات الأساسية، ويعطيه القدرة على محاسبة الحكومة بكافة فروعها التنفيذية والتشريعية والقضائية، دستور لا يستطيع أي فرد أو مجموعة صغيرة بإرادتها المنفردة أن تعدل نصوصه وتكيف تفسيرها بما يخدم مصالحها هي، دستور يضع عقوبات رادعة لمن يفكر في مجرد تجاوز ما جاء فيه من حقوق والتزامات، فلا يستطيع حزب مثل الحزب الوطني أو جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين التلاعب به، أو الالتفات عليه لتبرير انتهاك نصوصه
الخلاص في مجتمع حاضر بقوة في إدارة شئون نفسه، لا يتركها لمجرد انه يرغب في أن ينعم بالسلامة، لأنها سلامة مؤقتة سريعا ما تزول عندما تشعر السلطة أنها لا رقيب عليها فتتحول من العمل للصالح العام للعمل من اجل مصالح شخصية ضيقة، سلطة تخصخص الدولة لصالحها، أو بمعنى اصح لصالح حاكمها، وتصبح الدولة هى الرئيس والرئيس هو الدولة لا انفصال بينهم.

شيك على بياض: ليس لدي لكم حقوق (5 – 6)


إذن من بين الأطروحات الثلاثة التي قدمها مفكري العقد الاجتماعي توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، اختار المصريون – بصورة ضمنية – أطروحة هوبز، التي تقوم على أن الأفراد وهم في سبيلهم للخروج من حالة الطبيعية الأولي – التي سادت فيها حالة حرب الكل ضد الكل – تنازلوا عن كل حقوقهم وحرياتهم لصالح حاكم فرد أو مجموعة صغيرة، حتى تتمكن من إخراجهم من هذه الفوضى، فتكون النتيجة عقد بين الأفراد وبعضهم البعض، الحاكم ليس طرف فيه على الإطلاق، ولكنه ينتفع بما جاء فيه من أحكام، يتفق فيه الأفراد على الطاعة العمياء للحاكم وعدم الخروج عليه طالما يحافظ على أمنهم.
إن هذه الصورة تكشف لنا عدد من الأمور الخطيرة، أولها أن الشعب فرَط من جديد في حقه في اختيار حاكمه، ومن ثم الرقابة على تصرفاته وتصرفات مسئوليه ووزرائه تمهيدا لمحاسباتهم إذا أساءوا استغلال سلطتهم، ثانيا أن هذا التنازل الكلي والشامل عن الحقوق لا يعطي لهم حق منازعة الحاكم أو حتى الاختلاف معه، طالما يحقق لهم الأمن، فتكشف الحوارات العابرة مع المصريين خصوصا من عاصروا فترة هزيمة يوليو وحرب أكتوبر وما تلاهما، عن أن احد أسباب رضائهم بالنظام القائم على الرغم من مساوئه الكثيرة هو انه جنَب مصر الدخول في صراعات وحروب خارجية وأمًن لها نوع من الاستقرار – وهو رأي مردود عليه من أوجه عدة لان ثمن هذا الاستقرار كانت انتشار الفساد والاستبداد وتدهور مستويات لمعيشة..الخ – ومن ثم لا بأس من بقائه، ثالثا أن هذا التنازل يشير بصورة ضمنية إلى عدم قدرة الأفراد على تنظيم أنفسهم من اجل الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم وحرياتهم، ومن ثم يتنازلوا عن كل حقوقهم لحاكم فرد منقِذ ملهَم خارق الذكاء، باعتباره الوحيد القادر على قيادة دفة المجتمع وتوجيه بوصلة أفراده الأغبياء القُصَر، الذين لا يعون الصالح العام ولا حتى صالحهم الشخصي، فنجد مؤخرا يخرج علينا احد نواب الحزب الحاكم أثناء نظر المجلس استمرار تفويض الرئيس في عمليات شراء الأسلحة، يطالب بأن نسلم رقابنا للرئيس مبارك، لأنه حتى ولو كان ديكتاتور فهو ديكتاتور عادل، ونجد أخر يطالب بقتل المتظاهرين بالرصاص لأنهم قلة مندسة عميلة لقوى الخارج تريد أن تطيح باستقرار البلد وأمنها.
فحوى هذا الأمر يتكرر كثيراً في خطابات النظام، فأحزاب المعارضة هشة هزيلة، لم ولن تستطيع إفراز من هم قادرين على الاضطلاع بهذه المهمة العظيمة، ومن يتجرأ ويفكر انه يمكن أن يحل محل السلطة القائمة فهو إما عميل لقوى الشر المتربصة بمصر، هذه القوى التي يتعاون معها النظام الحاكم سرا وعلانية وهم لنا أصدقاء مقربون وحلفاء إستراتيجيون، وان لم تثبت عليهم التهمة فهناك تهم أخرى جاهزة أبرزها وأكثرها فاعلية أنهم ليسوا على دراية بشئون مجتمعهم، فهم مجرد أبطال وهمية في الفضاء الالكتروني غير قادرين على الالتحام مع الواقع، بعكس قيادات الحزب الملتحمة مع شعبها، العالمة بكل صغيرة وكبيرة عنه، فهذا الشعب يتمتع بمستوى رفاهية عالي لان أكوام الزبالة ملئت الشوارع، وهو شعب توافرت له كل سبل الراحة لان عدد السيارات الخاصة زادت، كأن بسطاء – ولن أقول فقراء – هذا البلد هم من يشترون السيارات الخاصة.
وبمناسبة ذكر السيارات الخاصة باعتبارها مؤشرا صحيحاً على الرفاهية والثروة، في مدنية بنها هناك نوع من السيارات – يسميه أهل البلد السوزوكي – يستخدم في التنقلات الداخلية فهو بمثابة التاكسي في القاهرة، تعتبر هذه السيارة مصدر رزق لمن لم يجدوا نصيبا لهم من رفاهية هذا البلد التي زادت عن الحد، حيث اتجه كثير من الشباب والباحثين عن أمل جديد في حياة آدمية إلى شراء هذه السيارة السوزوكي للعمل عليها كوسيلة مواصلات عامة، وعندما يذهب هؤلاء لاستخراج تراخيص هذه السيارة باعتبارها سيارة أجرة ترفض إدارة المرور تسجيلها بهذه الصفة، لان هناك قرار بعدم منح تراخيص جديدة بهذه الصفة لهذه السيارات، فيضطر أصحابها إلى تسجيلها بصفة سيارة خاصة ملاكي، ويمنع عليهم بالطبع السير في شوارع المدينة لاستخدامها في نقل الركاب، ولكنهم ينتظروا في أماكن معينة انتظارا لزبون خصوصي يأخذه إلى مكان ما داخل المدنية أو حولها، نعم نحن مرفهين لان سياراتنا الخاصة زادت، ولكن الم ينتبه هذا المسئول إلى أن هناك من يغير سيارته كل عام وان هناك من يمتلك أكثر من سيارة واحدة وطبعا هؤلاء من عامة الناس، وان هناك سيارات خاصة اسما أجرة فعلاً وعملاً.

شيك على بياض: تنازل الكل عن الكل (4 – 6)

ما دلالات هذا الأمر وخطورته على مستقبل مصر ومستقبل دور مواطنيها في إدارة شئونهم بأنفسهم، إن هذا الحديث عن المنقذ الأوحد الذي يسلم له كل شيء يحيلنا بالمقابل إلى الطبيعة التعاقدية لنشأة الدولة واعتبارها بمثابة الأساس الذي تقوم عليه السلطة فيها، وفي هذا السياق تقدم نظرية العقد الاجتماعي – مع الاخذ في الاعتبار الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية – أساساً معقولا يمكن القبول به كأساس لقيام المجتمع السياسي المنظم.
يقوم جوهر النظرية على أن الأفراد يتفقوا فيما بينهم – للخروج من حالة الطبيعة الأولى – على اختيار سلطة عليا يتنازلوا لها عن بعض حقوقهم كما قال جون لوك أو كل حقوقهم كما قال توماس هوبز من اجل حماية الأفراد من الأخطار الخارجية وصيانة الاستقرار الداخلي، إذن يتفق الأفراد فيما بينهم على ضرورة وجود سلطة لديها التزامات تجاه الأفراد يجب أن تقوم بها، ويكون الحاكم طرف في هذا العقد ومقيد بأحكامه، وإذا لم يستطع الوفاء بها يجب عزله، بالطبع هناك تصورات أخرى لهذا العقد طرحها مفكرين آخرين.
ولكن المهم في هذا السياق أن هناك اتفاق مسبق بين الجميع على ما يجب التنازل عنه من حقوق وحريات في سبيل إيجاد سلطة قوية تنظم وتدير المجتمع، وما يجب أن يحتفظ به المجتمع من حقوق وحريات، واتفاق على التزام كل طرف تجاه الأخر، وأفضل نظم الحكم، والنتائج المترتبة على إخلال أي طرف بالتزاماته تجاه الأخر بموجب العقد.
وغياب هذا الاتفاق بين المجتمع والسلطة هو مدخلا لاستبدادها وتعديها المستمر على حقوق المجتمع، وهذا الأمر هو ما يمكن أن نفسر به الأوضاع في طول المحروسة وعرضها، فالسلطة ونظامها الحاكم في مصر أخلت بالعقد الضمني الذي تم بين الشعب ومجموعة الضباط الأحرار التي قامت بانقلاب يوليو 1952، والذي تحول لاحقا إلى ثورة كبيرة طالت كل شيء في مصر، البني السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان العقد أن يقوم الضباط بتحقيق الوعود الست التي قطعتها الثورة على نفسها، والتي كانت تعبر – بصورة أو بأخرى – أيضا عن طموحات غالبية أفراد الشعب آنذاك. فالعقد بالفعل كان قائم، فغالبية المصريين كانوا غير راضين عن الأوضاع في ظل الفساد الذي استشرى وهزيمة الجيش في حرب 1948 وفساد الكثير من الأحزاب، فكانت هناك رغبة حقيقية للتغيير تنتظر من يمتلك الأدوات لوضعها موضع التنفيذ، وكان الجيش هو هذه الأداة، ففوضه الشعب تفويضا تاما ولم يحمى هذا التفويض بشروط وضمانات تمنع خروجه عن الهدف المنوط به.
ولكن سرعان ما انقلب مجلس قيادة الثورة على هذا الاتفاق عندما رفض محاولات رئيس مصر الأول محمد نجيب لإعادة الجيش إلى ثكناته وإقامة ديمقراطية حقيقية وإعداد دستور جديد للبلاد، ففشلت المظاهرات التي اندلعت في مارس من العام 1954، مؤيدة لمطالب أول رؤساء الجمهورية في مصر، ولكن لان قادتها اعتقدوا أن الوقت ليس مواتي لمثل هذا الأمر، باعتبارهم الأكثر دراية بشئون المجتمع، وهم الأقدر على إعادة توجيه بوصلته، بعد أن فشلت الأحزاب في فترة ما قبل الثورة في مهمتها داخل النظام السياسي، والفساد الذي استشرى فيها وفي القصر الملكي، علاوة على ضرورة السيطرة على أي انقلابات أو اتجاهات مضادة للثورة الوليدة، نجح الرئيس عبد الناصر بفضل شخصيته الكاريزمية في تعبئة جموع الشعب المصري خلف مشروعه الوطني والقومي.
ولان الأمر برمته تركه الشعب في يد الرئيس ومجموعة الضباط من حوله في مجلس قيادة الثورة وأعوانهم، الذين امتلأت بهم مؤسسات الدولة المختلفة، دون إقامة نظام واضح للمسئولية والمحاسبة، فقد كان من الطبيعي أن يفشل النظام في إدارة شئون المجتمع لضياع المسئولية وعدم وجود رقابة على عمل المسئولين، مما أدى إلى فساد الكثير منهم وانحرافهم بالسلطة عن الهدف المنشود منها، فكانت الهزيمة في عام 1967.
وتتوالى الأيام ويتوفى الرئيس عبد الناصر ولم يتعلم الشعب المصري الدرس، أن ترك كل أموره تدار بواسطة من هم في السلطة دون أي مشاركة حقيقة من جانبهم أمر شديد الخطورة، فلابد أن نستعيد الأرض أولا، ويتولى السادات رئاسة الدولة، وينجح في التخطيط للحرب واستعادة الأرض، ولكنه يفقد حرية الإرادة المصرية فيربطها بمشيئة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولأنه يعلم أن المجمع المصري ليس جزء من السلطة وغير مشارك فيها، فقد اتبع أسلوب الصدمة في صنع قراراته فعقد صلح منفرد مع إسرائيل وفتح اقتصاد مصر أمام كل الأنشطة الطفيلية التي أخلت بالتركيبة المجتمعية للمجتمع، وأحدثت خلالا كبيرا فيها ما نزال نعاني منه حتى الآن. ويأتي الرئيس مبارك للسلطة بنفس طريقة سلفه، لا شعب اختاره ولا عقد انعقد بين الطرفين، يحدد الحقوق والالتزامات المتبادلة.
إذن ثلاث رؤساء بلا عقد شهدتهم مصر منذ ثورة يوليو، إذا استثنيا فترة حكم الرئيس محمد نجيب –القصيرة – في بدابة عهد الثورة، والذي أراد أن يؤسس لهذا لعقد بين الشعب ونظام الحكم، من خلال إقامة نظام ديمقراطي يقوم على دستور جديد يكفل الحقوق والحريات ويعيد الضباط إلى ثكناتهم للدفاع عن ارض الوطن فقط، ليتركوا شئون الحكم لمن هم اقدر عليها.

شيك على بياض: مشاهد من الحياة (3 – 6)

the hope
المشهد الثاني، المجتمع المصري يشهد كل يوم إضراباً ومطالبات عدة بتحسين الأحوال الاقتصادية ورفع الأجور، ومطالب على استحياء بتعديل الدستور وإقامة نظام ديمقراطي وتقديم ضمانات لنزاهة الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وتصاعد لنغمة التوريث في أحاديث الشارع المصرين وداخل أركان النظام الحاكم.
المصريون يبحثون عن المخلص والمنقذ الذي يأخذ على عاتقه مواجهة استبداد النظام، وكسر حلقة السلطة المحكمة الغلق، تطرح في سماء المحروسة أسماء عدة للقيام بالمهمة، عمرو موسي وزير الخارجية السابق وأمين عام جامعة الدول العربية الحالي، ايمن نور الناشط السياسي الذي واجهه الرئيس مبارك في الانتخابات الرئاسية الماضية، أسماء عدة أخرى غير معروفة للكثيرين في الشارع المصري، ومن بعيد يلمع نجم المصري الذي واجه رئيس اكبر دولة في العالم إبان عزمها على غزو العراق في العام 2003، حامل جائزة نوبل في السلام وقلادة النيل ارفع الأوسمة المصرية، صاحب السجل النظيف الذي لم تدنسه أي سابقة فساد أو انحراف بالسلطة، انه محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يوشك على ترك منصبه بعد إنهاء فترته الثالثة في رئاسة الوكالة.
بتصريح بسيط في كلماته عميق في دلالاته، يحرك البرادعي المياه الراكدة في مستنقع السياسة المصرية منذ ثورة يوليو، “يمكن أن أفكر في ترشيح نفسي في الانتخابات الرئاسية إذا ما توفرت الضمانات التي تكفل نزاهة الانتخابات” تنزل هذه الكلمات على المصريين كما تنزل حبات المطر على ارض قاحلة جرداء لتعيد لها الحياة بعد ممات طويل ظنت أنها لن تحيى بعده أبدا.
يتلق المصريون هذه النية بأمل فسيح، فتبدأ حملات الدعم والتأييد في الفضاء الالكتروني، تحث البرادعي على خوض المعركة، وتجمع المناصرين من حوله، خاصة من فئات الشباب المتعطش لدماء جديدة تضخ في جسد مصر الهامد، فتعيد فيه الحياة وتغير من ملامح وجهها المتهدل، الذي لم يعد ينم عن أي نضارة رغم شبابها الممتد منذ أن نشأت حضارتها الأولي.
مطار القاهرة في انتظار عودة المنقذ القادم من بعيد، من فيينا التي اعتبرتها أسمهان جزء من الجنة، مئات الأفراد المتطلعين للتغيير في انتظاره بلافتات التأييد والدعم، من كل نواحي المحروسة أتوا للتعبير عن حماستهم وتفويضهم المطلق للبرادعي، باعتباره القادر في الوقت الحالي على مواجهة النظام، متناسين أنهم الشعب، الذي به ومن اجله خلقت الدولة وأسست فيها السلطة، هذا الشعب الذي جعله الأديب محمد فريد أبو حديد محورا لروايته “أنا الشعب”.
ويمكن للفرد أن يسرد مشاهد أخرى من حياتنا اليومية سواء في محيط الأسرة الواحدة أو العمل أو الشارع شبيهة بهذه القصص والروايات التي فيها جميعا يؤثِر الفرد السلامة ويسلم مصيره لرجل يتصور انه خارق يأخذ زمام المبادرة ويكون في المقدمة يتلقى عنه الضربات الموجعة، لأنه بسبب نازلات الدهر لم يعد قادر حتى على التفكير في خوض أي مواجهة، حتى ولو كانت مواجهة مصيره سوف يتوقف عليها بقائه وكرامته وآدميته.

شيك على بياض: مشاهد من الحياة (2 – 6)


المشهد الأول خمس سنوات أو ما يزيد من التراجع في النتائج والتدهور والهزائم المتكررة والحديث عن إمكانية الهبوط إلى الدرجة الثانية، ظروف دفعت احد ممثلي مسرحية “قهوة سادة” في الجزء الخاص بدعاء رجال الأعمال، إلى التوجه إلى الله متضرعا ونادبا حظه، لأنه بالرغم من ضمه لصفوة لاعبي العالم في كرة القدم دروجبا وصامويل ايتو ورونالدينهو، لم يتمكن نادي الزمالك من هزيمة الأهلي في السنوات الأخيرة.
ما الحل؟ كيف نخرج من هذه الكبوة الممتدة؟ فعلنا كل شيء؟ غيرنا مجلس الإدارة أكثر من مرة، غيرنا المدير الفني ممرات ومرات؟ تظاهرنا أمام اتحاد الكرة الذي كان دائما في موقف المتآمر علينا، والمفتئت دوماً على حقوقنا.
أخيرا ظهر المنقذ والمخلص للنادي من أزمته المزمنة، انه التوأم حسام وإبراهيم حسن لاعبا الزمالك السابقين، أتيا مسلحين بكل ما اكتسبوه من خبرة طوال تواجدهما داخل الملعب، إذن فليتوليا المسئولية، واتفق الجميع بصورة ضمنية أو غير ضمنية على التفويض الكلي والشامل للتوأم، من اجل فعل أي شيء لانقاذ النادي، فلنضرب بكل القوانين واللوائح عرض الحائط، من اجل تنفيذ أي رغبة يعبروا عنها، باعتبارها حيوية لبدء تنفيذ مهمة الإنقاذ، إبراهيم حسن موقوف لمدة خمس سنوات عن ممارسة المهنة، بقرار مصدق عليه من الفيفا، لا يهم فليؤدي مهمته بصورة غير رسمية، فمنذ متى والقانون يحترم، فهناك من الثغرات التي تمكننا دوما من الالتفاف حول كل القوانين واللوائح، المهم المصلحة.
بالفعل بدأت مهمة الإنقاذ واستطاع المنقذ الأبيض أن ينتشل الأبيض من كبوته ويعيد إليه مذاق الانتصارات، وينقله من المركز الثالث عشر إلى المركز الثاني، بعد إحداث درامية خيمت عليها أجواء نظرية مؤامرة كبرى – كما اعتقد التوأم ومن ورائهم مجلس الإدارة والجماهير البيضاء – محبوكة الصنعة لتدمير النادي وإبقائه في أزمته، مؤامرة اشترك فيها الجميع – عن قصد أو غير قصد – اتحاد الكرة ولجنة الحكام والنادي الأهلي.
ولأنه المنقذ فقد تم التغاضي عن كل ما ارتكبا من أخطاء في حق القيم والمبادئ الرياضية، لأنه يتعرضون للظلم ومن ثم فمحق حقهم فعل أي شيء من اجل رفع الظلم ومواجهة المؤامرة الكبرى ضد النادي، وخرجت التصريحات من كل حدب وصوب داخل النادي تؤيد كل ما يقوما به، لأنهم يدافعون عن كرامة النادي ضد المؤامرة الكبرى، ووصل الأمر إلى مناشدة كبار المسئولين – من اصغر موظف في المجلس القومي للرياضة إلى رئيس الجمهورية – للوقوف بجانب النادي، علاوة على التهديد بالتصعيد إلى أعلى المستويات الدولية.

شيك على بياض: في انتظار المعجزة (1 – 6)

لست على يقين تام من هذا الأمر، ولكني اعتقد أنه مدخلا مهما من مداخل الاستبداد إذا ما وجد في مكان ما، فغالباً ما يكون مصيره تفشي الاستبداد والظلم وهروب العدل منه، ولن يكون سهلا أبدا إعادته، إلا إذا تغيرت الأحوال والظروف، إنه الإتباع الأعمى للمنقذ والمخلص الأوحد، مبعوث العناية الإلهية – كما يصور لنا خيالنا – الذي يأتي إلينا لينتشلنا مما نحن فيه من ظلم وذل واستعباد، أو ظروف غير مواتيه أخرتنا كثيراً.
الجميع يائس ومحبط فاقد الأمل في حدوث أي تغيير أو تحسن الأحوال، يترسخ اعتقاد جازم – يصل في بعض الأحيان إلى عقيدة غير قابلة للنقاش – انه لا خروج من هذه الدائرة الجهنمية، فكيف لنا نحن الضعفاء المجردين من أي قدرة على الفعل والحركة أن ننتشل أنفسنا أو المكان الذي ننتمي إليه من الضياع والانهيار، ويظل كل فرد في انتظار أحد حلين، إما المشيئة الإلهية أو سنن الله الخارقة – بتعبير أستاذنا الدكتور معتز عبد الفتاح – لتنزل على الأرض لتخلصها مما انتشر فيها من خراب وفساد، أو انتظار فارس مغوار يمتطي جوادا صاهلا يشق به غبار الأرض، رافعا سيف الخلاص فيبدأ في التفكير هل يتبعه ويحمل معه سيف الخلاص ليحول الخراب إلى عمران، ولكن كيف يحمل سيف الخلاص؟ وهو الذي فطم على إيثار السلامة، والسير بجوار الجدران بعيدا عن زحمة الطريق، وما يعج به من مخاطر قد تودي بحياته في أي لحظة.
وتظل تختلج النفس بصراع مرير، هل يحافظ على حياته التي لم يعد له منها سوى الشهيق اللاهث متلمساً سبيلا إلى رئتيه، والزفير الذي يكافح من اجل الخروج، أم يفعل كما فعل فؤاد المهندس في فيلم ارض النفاق، فيتجرع حبوب الشجاعة وينزل إلى الحارة ناصبا رأسه إلى عنان السماء، عازما على إنقاذ القهوجي الذي ينال ضربا مبرحا من مَعَلِم القهوة، أم يتجرع حبة نفاق، فهى إن لم تصل به إلى مكانة مرموقة بين رفاقه، فإنها ستجنبه مخاطر السير في وسط الطريق.
وأخيرا يصل إلى الحل السحري الذي يظن انه سيضمن له كلا الحسنيين إيثار السلامة والبعد عن المتاعب من ناحية، وإمكانية تحسن الأحوال والظروف من ناحية ثانيا، لن يكلفه الأمر سوى ورقة بيضاء يذيلها بتوقيعه يفوض فيها الأمر برمته إلى مبعوث العناية الإلهية.
سيدي اقر وأنا في كامل قواي العقلية – ولكنه في الحقيقة ليس كذلك بل هو مغيب الإرادة وفاقد القدرة على الفعل – أني فوضتك لتفعل ما تشاء من اجل أن تجلب العمران وترفع الظلم وتنشر العدل وتغير الأحوال والظروف من النقيض إلى النقيض، معطيك كل الحق في أن تستخدم ما تراه مناسبا من أدوات وأساليب لتحقق هذه الأماني، ليس عليك رقيبا سوى ضميرك، أما أنا فمتشبث بحائطي الذي من كثرة تعودي على السير بجانبه التصقت به والتصق بي، لا يفرق بيننا شيء حتى الموت نفسه، فبعد الموت سيظل ذلك الجزء من الحائط ملتصق بي ويدفن معي. وأخيرا أتمنى عليك ألا تخذلني.
التوقيع: إنسان لم يعد إنسان لأنه سمح للآخرين أن يجعلوه كذلك.
بتلك الكلمات البسيطة في صياغتها الكارثية في دلالتها، يحيل الإنسان نفسه وكينونته وأدميته ومستقبله للمبعوث القادم لخلاص العباد، ويجعل مستقبله رهن بإرادة هذا المبعوث وقدرته على الفعل والحركة