شيك على بياض: تنازل الكل عن الكل (4 – 6)

ما دلالات هذا الأمر وخطورته على مستقبل مصر ومستقبل دور مواطنيها في إدارة شئونهم بأنفسهم، إن هذا الحديث عن المنقذ الأوحد الذي يسلم له كل شيء يحيلنا بالمقابل إلى الطبيعة التعاقدية لنشأة الدولة واعتبارها بمثابة الأساس الذي تقوم عليه السلطة فيها، وفي هذا السياق تقدم نظرية العقد الاجتماعي – مع الاخذ في الاعتبار الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية – أساساً معقولا يمكن القبول به كأساس لقيام المجتمع السياسي المنظم.
يقوم جوهر النظرية على أن الأفراد يتفقوا فيما بينهم – للخروج من حالة الطبيعة الأولى – على اختيار سلطة عليا يتنازلوا لها عن بعض حقوقهم كما قال جون لوك أو كل حقوقهم كما قال توماس هوبز من اجل حماية الأفراد من الأخطار الخارجية وصيانة الاستقرار الداخلي، إذن يتفق الأفراد فيما بينهم على ضرورة وجود سلطة لديها التزامات تجاه الأفراد يجب أن تقوم بها، ويكون الحاكم طرف في هذا العقد ومقيد بأحكامه، وإذا لم يستطع الوفاء بها يجب عزله، بالطبع هناك تصورات أخرى لهذا العقد طرحها مفكرين آخرين.
ولكن المهم في هذا السياق أن هناك اتفاق مسبق بين الجميع على ما يجب التنازل عنه من حقوق وحريات في سبيل إيجاد سلطة قوية تنظم وتدير المجتمع، وما يجب أن يحتفظ به المجتمع من حقوق وحريات، واتفاق على التزام كل طرف تجاه الأخر، وأفضل نظم الحكم، والنتائج المترتبة على إخلال أي طرف بالتزاماته تجاه الأخر بموجب العقد.
وغياب هذا الاتفاق بين المجتمع والسلطة هو مدخلا لاستبدادها وتعديها المستمر على حقوق المجتمع، وهذا الأمر هو ما يمكن أن نفسر به الأوضاع في طول المحروسة وعرضها، فالسلطة ونظامها الحاكم في مصر أخلت بالعقد الضمني الذي تم بين الشعب ومجموعة الضباط الأحرار التي قامت بانقلاب يوليو 1952، والذي تحول لاحقا إلى ثورة كبيرة طالت كل شيء في مصر، البني السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان العقد أن يقوم الضباط بتحقيق الوعود الست التي قطعتها الثورة على نفسها، والتي كانت تعبر – بصورة أو بأخرى – أيضا عن طموحات غالبية أفراد الشعب آنذاك. فالعقد بالفعل كان قائم، فغالبية المصريين كانوا غير راضين عن الأوضاع في ظل الفساد الذي استشرى وهزيمة الجيش في حرب 1948 وفساد الكثير من الأحزاب، فكانت هناك رغبة حقيقية للتغيير تنتظر من يمتلك الأدوات لوضعها موضع التنفيذ، وكان الجيش هو هذه الأداة، ففوضه الشعب تفويضا تاما ولم يحمى هذا التفويض بشروط وضمانات تمنع خروجه عن الهدف المنوط به.
ولكن سرعان ما انقلب مجلس قيادة الثورة على هذا الاتفاق عندما رفض محاولات رئيس مصر الأول محمد نجيب لإعادة الجيش إلى ثكناته وإقامة ديمقراطية حقيقية وإعداد دستور جديد للبلاد، ففشلت المظاهرات التي اندلعت في مارس من العام 1954، مؤيدة لمطالب أول رؤساء الجمهورية في مصر، ولكن لان قادتها اعتقدوا أن الوقت ليس مواتي لمثل هذا الأمر، باعتبارهم الأكثر دراية بشئون المجتمع، وهم الأقدر على إعادة توجيه بوصلته، بعد أن فشلت الأحزاب في فترة ما قبل الثورة في مهمتها داخل النظام السياسي، والفساد الذي استشرى فيها وفي القصر الملكي، علاوة على ضرورة السيطرة على أي انقلابات أو اتجاهات مضادة للثورة الوليدة، نجح الرئيس عبد الناصر بفضل شخصيته الكاريزمية في تعبئة جموع الشعب المصري خلف مشروعه الوطني والقومي.
ولان الأمر برمته تركه الشعب في يد الرئيس ومجموعة الضباط من حوله في مجلس قيادة الثورة وأعوانهم، الذين امتلأت بهم مؤسسات الدولة المختلفة، دون إقامة نظام واضح للمسئولية والمحاسبة، فقد كان من الطبيعي أن يفشل النظام في إدارة شئون المجتمع لضياع المسئولية وعدم وجود رقابة على عمل المسئولين، مما أدى إلى فساد الكثير منهم وانحرافهم بالسلطة عن الهدف المنشود منها، فكانت الهزيمة في عام 1967.
وتتوالى الأيام ويتوفى الرئيس عبد الناصر ولم يتعلم الشعب المصري الدرس، أن ترك كل أموره تدار بواسطة من هم في السلطة دون أي مشاركة حقيقة من جانبهم أمر شديد الخطورة، فلابد أن نستعيد الأرض أولا، ويتولى السادات رئاسة الدولة، وينجح في التخطيط للحرب واستعادة الأرض، ولكنه يفقد حرية الإرادة المصرية فيربطها بمشيئة الولايات المتحدة وإسرائيل، ولأنه يعلم أن المجمع المصري ليس جزء من السلطة وغير مشارك فيها، فقد اتبع أسلوب الصدمة في صنع قراراته فعقد صلح منفرد مع إسرائيل وفتح اقتصاد مصر أمام كل الأنشطة الطفيلية التي أخلت بالتركيبة المجتمعية للمجتمع، وأحدثت خلالا كبيرا فيها ما نزال نعاني منه حتى الآن. ويأتي الرئيس مبارك للسلطة بنفس طريقة سلفه، لا شعب اختاره ولا عقد انعقد بين الطرفين، يحدد الحقوق والالتزامات المتبادلة.
إذن ثلاث رؤساء بلا عقد شهدتهم مصر منذ ثورة يوليو، إذا استثنيا فترة حكم الرئيس محمد نجيب –القصيرة – في بدابة عهد الثورة، والذي أراد أن يؤسس لهذا لعقد بين الشعب ونظام الحكم، من خلال إقامة نظام ديمقراطي يقوم على دستور جديد يكفل الحقوق والحريات ويعيد الضباط إلى ثكناتهم للدفاع عن ارض الوطن فقط، ليتركوا شئون الحكم لمن هم اقدر عليها.